كيف تحول خارطة متخيلة إلى أرض ذات حدود: اكتشاف إسرائيل القديمة اليوم الخاطرة 60
كنت قد نشرت قبل أكثر من عامين (أعتقد عام 2020) مراجعة لمقالة إدّعى صاحبها انطباق خريطة إسرائيل القديمة على حدود دولة اسرائيل الصهيونية الحديثة. وحيث أن الحديث يدور هذه الأيام حول تصريحات وزير المالية الاسرائيلي الحالي، واستخدامه خريطة تشمل الأردن وفلسطين، آثرت أن أعيد توزيع ما كتبت حينها حول محاولات اسرائيل تطويع المعلومات التوراتية في خدمة الصهيونية العالمية. وأقدم أدناه نصاً طبق الأصل عمّا نشرت سابقاً.
صدر في عدد 7 تشرين أول 2018 من مجلة Global Journal of Archaeology and Anthropology مقالة بعنوان :
When Map Becomes Territory: Finding Ancient Israel in the Modern Age
وبعد قراءتها والتمعن بمضمونها، وجدت أن ما فيها من معلومات ينسحب على ما تفعله إسرائيل حالياً من ضم بغير حق لأراضي فلسطين التاريخية، وذلك اعتماداً على قوتها العسكرية، وضعفنا وتمزقنا العربي. وكيف أنها، من أجل تحقيق أهدافها، تطوُّع الحقائق التاريخية والدلائل الأثرية لتحقيق مآربها السياسية، باستخدام تفسيرات يقدمها باحثون يرتكزون في تفسيراتهم على النصوص التوراتية، وإن هم أنكروا ذلك وعلى الملأ. وبناء عليه، قررت أن أقدم بعض الأفكار التي وردت في هذه المقالة للقارئ الكريم.
منذ تأسيس المدارس الأثرية التوراتية، وكان أولها في عام 1865 ميلادية، جاء الآثاريون الغربيون إلى بلادنا يحملون التوراة بيد والمعول بالأخرى Bible and Spade لإثبات صحة ما جاء فيها من معلومات عن إسرائيل وأهلها القدماء. أي بكلمة أخرى، البحث عن مواقع وبقايا أثرية يمكن نسبتها للإسرائيليين القدماء منذ خروجهم من مصر في نهاية الألف الثاني قبل الميلاد (هذا إن كانوا قد خرجوا …!)، حتى يبنى فوق هذه الآثار إسرائيل جديدة، ترفع علم الأجداد. واستمر هذا الحال في البحث الأثري التوراتي طيلة القرن العشرين. وكان مؤسس هذه المدرسة التوراتية الأميركي وليم فوكسويل أولبرايت William Foxwell Albright الذي نشر كتابه Archaeology of Palestine، وتبعه باحثون أميركيون وأوروبيون وإسرائيليون.
وبعد أن تحققت مآرب التوراتيين بإنشاء دولة إسرائيل بفلسطين التاريخية، ( 15 أيّار 1948م) وجب عليهم الآن تثبيت حدود هذه الدولة. ولتحقيق هذا المأرب غيروا منهجهم البحثي في القرن الحادي والعشرين، فانتقلوا من البحث عن المواقع الأثرية (التي يعدونها إسرائيلية) وتثبيتها على الخرائط، إلى رسم الحدود السياسية، أي وضع الخريطة السياسية. وحتى يتحقق لهم هذا وضعوا التوراة جانباً/ وذهبوا للبحث عن مكان يثبّتون فيه عَلَم إسرائيل القديمة، أي انتقلوا من التوراة والمعول (Bible and Spade) إلى العَلَم والمعول(Flag and Spade) . لكن وبنظرنا، كان من الأولى على الباحثين المتصهينين قبل أن يرسموا حدود إسرائيل الحالية، أن يعرّفوا لنا أولاً اسمي العلم والمكان “إسرائيل” حيثما ورد. فعلى الرغم من وجود هذا الاسم وكثرة تردده في الكتابات المعاصرة، إلاّ أن أحداً من الباحثين لم يقدم لنا حتى الآن تعريفاً مقنعاً Substantive definition.
نعم، لقد قدم الآثاريون الإسرائيليون، من أمثال “أهاروني” و”فاوست” و”فنكلشتاين”، تعريفات للمكان معتمدين فيها على دراسة المادة الأثرية المكتشفة في المكان ونسبتها بغير حق إلى الإسرائيليين الأوائل Given lip service to archaeological findings. بل الأسوأ من هذا، أنهم يجترون نفس التفسيرات، وبشكل ممجوج، اعتماداً على أيدولوجيتهم الخاصة المتمثلة بأن حدود “إسرائيل” في العصور القديمة هي نفسها حدود “إسرائيل” المعاصرة.
وبرأي العارف بالأمر، أن بعض هؤلاء الآثاريين التوراتيين يتعمدون عدم تقديم المعلومات الصحيحة، إذ إن أية مشكلة بحثية وعلمية يجب أن تبدأ بتفكير ناقد يعتمد على نظريات علمية صادقة وموثوقة، وليس على نصوص دينية مشكوك في صحتها. وبناء عليه، فإننا نرى أن دراسة آثار بلاد الشام، عامة، تعرضت لتفسيرات كثيرة اختلفت في دقتها وصحتها. وعلى هذا الأساس، فإننا نجزم أنه لا بد من مراجعة النظريات التي قامت عليها دراسة آثار بلاد الشام خلال القرن الحادي والعشرين، وفحص التفسيرات التي قدمها الباحثون التوراتيون اعتماداً على حفرياتهم في كثير من المواقع الأثرية. وبناء عليه، سأبدأ بتقديم بعض المعلومات التي نشرها عدد من الباحثين المهتمين بالنظرية النقدية، من أمثال Jonathan Z. Smith لدراسة الأديان، والذي يذكر فيها أن التوراتيين هم خدام للدين والأيديولوجيا، وأن كل بحث أثري أو أنثروبولوجي يجب أن تسبقه مناقشة ومن بعدها يُطبق على الأرض. ومن هنا، فإننا نؤكد أن من أولى الأولويات للطلبة والباحثين هو التوعية الذاتية، وثانيها هو الحيادية عند تحديد أهداف أبحاثهم العلمية، وفي استخدام المنهجيات والطرق والوسائل البحثية. وعلى أية حال، نعتقد أن تعريف المصطلح ليس بالأمر السهل، خاصة إذا ما علمنا أن تطبيقه على الواقع يُعد تفسيراً مستبَقًاPre-interpretative . فعلى سبيل المثال، لو أطلقنا اسم “إسرائيل” في كل مرة على نفس المنطقة الجغرافية فإن هذا سيصبح أمرا واقعاً، لكن هذا التفسير لا يعتمد على أية أسس علمية أثرية، وإنما على أيديولوجيا، أو حتى أسوأ من هذا، على نص ديني. وقد أطلق هذا الإسم على شخص “يعقوب” وليس على أرض. ولكي نثبت صواب ما ذهبنا إليه، نضرب مثالاً من كتاب الباحث الإسرائيلي إسرائيل فنكلشتاين The Archaeology of the Israelite Settlements.
إذ يقدم الباحث في هذا الكتاب الأمنيات والوعود بوجود المستقرات البشرية الإسرائيلية دون الاعتماد على دراسة اللقى الأثرية في هذه المواقع، فهو يستند في استنتاجاته إلى طبيعة المكان وليس المعثورات التي وجدت فيه.
لقد ركز الباحثون التوراتيون جلّ اهتمامهم في دراسة الآثار الإسرائيلية على أمرين، هما:
1. العثور على مواقع تؤرخ للقرنين الثاني عشر والحادي عشر قبل الميلاد.
2. تحول المجتمع الإسرائيلي من مجتمع قَبَلي إلى آخر متحضر ومتمدن.
وكما نعلم فإن هذين الأمرين هما من أهم المسائل التي يحاول الباحثون فك عقدتهما، لخدمة تاريخ وأرض إسرائيل التوراتية. وحتى نخرج من هذا المأزق، فإنه لا بد لنا من تغيير منهج بحثنا وتفكيرنا حول هذا الموضوع خاصة، ودراسة آثار بلاد الشام، عامة. ويؤكد هذا أيضاً الباحث الإسرائيلي إسرائيل فنكلشتاين، إذ يرى أن منهجية دراسة الآثار في الوقت الحالي أفضل بكثير منها مما مضى، خاصة في طريقته التي اتبعها في مسوحاته الأثرية للمرتفعات الجبلية الوسطى في فلسطين بعد احتلالها في عام 1967م. ويعزو السبب في ذلك لغناها بالمواقع الأثرية المليئة بالمخلفات الأثرية، مما يساعده بالحصول على الكثير من المعلومات.
وبناء على هذه الملاحظة، نجد فنكلشتاين يحدد حدود إسرائيل بناء على أبحاثة ودراساته الشخصية، وهو ما يفعله في الفصل الثاني من كتابه المذكور أعلاه. لكننا يجب أن نتوقف هنا لنعود لنهاية الفصل الأول من الكتاب نفسه حيث يقول إن اهتمامه منصب على وجود شواهد أثرية مباشرة من مناطق وأماكن سكنى الإسرائيليين، لكن ما هذه الشواهد الأثرية المباشرة direct evidence؟ وكيف ستحدد هذه الشواهد فترة استقرار “سكنى” الإسرائيليين؟ وفي نظرنا أن الأهم من هذا كله، هو، ما هي الطرق العلمية والأساليب التي اتبعها فنكلشتاين في تفسير الشواهد الأثرية؟ ما هي نظريته وتساؤلاته؟
لقد بدأ فنكشتاين دراسته بتعريف “إسرائيل” وكذلك طبيعة المستقرات الإسرائيلية. وبناء على ما تقدم، فهو يرى أن الإسرائيلي هو الذي عاش خلال العصر الحديدي الأول (حوالي 1200 – 1000 ق.م)، وهو الذي ينحدر من سلالة سكان موقع Shiloh، الواقع شمالي رام الله، الذين سكنوا البلدة في النصف الأول من القرن الحادي عشر قبل الميلاد، أو هم من الذين عاشوا في زمن الدولة الإسرائيلية الموحدة. لكن المشكلة المهمة التي تبرز هنا أننا لم نعثر على أية بقايا يمكننا وصفها بالإسرائيلية من هذه المرحلة، ومن هذا المكان بالذات. وبناء عليه، فإن جل اعتماد فنكلشتاين على دراسة هذه الفترة كان بالعودة الروايات التوراتية علماً أنها كُتبت بعد حوالي 700 عام من نزولها على موسى (عليه السلام). وكلنا يعلم أن أول ذكر لكلمة “إسرائيل” كأرض وليس شعب كان في مسلة الفرعون المصري مرنبتاح (حوالي 1206 ق.م)، تبعها ذكرها في مسلة ميشع، الملك المؤابي (حوالي 850 ق.م)، وسوى هذا، فإن جميع المصادر المكتوبة تمنعت عن ذكر إسرائيل، كما أنه لا توجد أية مخلفات أثرية تخصهم من هذه الفترة الزمنية. وكلا المصدرين مشكوك بأصالتهما، كما ذكرنا في خاطرة سابقة. وأما خلال القرن العاشر ق.م وما تلاه، فقد وُجد نقش في كونتلة عجرود بجنوبي فلسطين، على حدود سيناء، يعتقد أنه إسرائيلي، وأما المصادر الأشورية المكتوبة فقد أشارت إلى منطقة شمالي فلسطين الجغرافية باسم بيت عَمري أو (السامرة)، وليس إسرائيل.
يلي فصول تعريف إسرائيل وأماكن الاستيطان الإسرائيلية في كتاب فنكلشتاين عرض لمواد أثرية وبقايا معمارية يفسرها بشكل مسهب، وغير دقيق في بعض الأحيان. وبالإضافة إلى هذا، فإنه يعتني بدراسة أماكن الاستقرار في المرتفعات الجبلية الفلسطينية خلال الفترة الممتدة بين القرنين الثاني عشر والعاشر قبل الميلاد، على نحو يدفعنا إلى التساؤل هل كانت هذه المستقرات فردية وذات ثقافة متعددة الأشكال Polymorphous؟ وبرأينا أن هناك خطأ فادح في وضع فنكلشتاين لهذه التفسيرات والنظريات لأنها تعتمد في أساسها على أيديولوجيات وعقائد دينية. ويتبيَّن لنا أن فنكلشتاين لم يمانع في استخدام هذا المنهج، خلافاً لما هو معروف عنه، من أنه يرفضه؛ إذ من الواضح أن فنكلشتاين اعتمد النص التوراتي في تفسيره وتعريفه للمستوطَن الإسرائيلي، خاصة في تحديد تموضع الإسرائيليين خلال نهاية فترة القضاة وبداية حكم الدولة الموحدة “مملكة داود وسليمان”. وهذا نص ديني لا يمكننا اعتباره مصدراً تاريخياً. لقد حاول إسرائيل فنكلشتاين تحديد الهوية الإسرائيلية اعتماداً على نسبة بعض المواد الأثرية والطرز العمائرية “للإسرائيليين”، ومنها جرار كبيرة لها حافة على شكل الياقة collared-rim jars والبيوت التي تحمل سقوفها أعمدة، ويبلغ عدد غرفها أربعاً four room house. وقد تبين حديثاً أن مثل هذه الجرار قد وُجدت في مناطق أخرى ومن فترات غير نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، فلا ندري ما هي الدوافع التي دفعت فنكلشتاين إلى تحديد نسب سكان المرتفعات الجبلية الفلسطينية ووصفهم بالإسرائيليين على الرغم من غياب الشواهد الأثرية، لماذا؟
برأينا إن الاعتماد على ما ورد في الكتاب المقدس من معلومات فقط يسبب إشكالية علمية كبيرة، تتجاوز مجرد التفسير الخاطئ لبعض الآثار المكتشفة. وبرأينا أن مثل هذه الدراسة يجب أن لا توصف بأنها أثرية أو أنثروبولوجية، وإنما عقائدية مشتقة من أجندة دينية. وينبغي أن نؤكد أن هذا المنهج في تفسير الآثار لا يساعد على الإجابة على الأسئلة التي يطرحها الباحثون، بل على تحقيق الأجندات. إن من واجبنا كآثاريين، ودارسي ثقافات عالمية، ومفسرين لما كانت عليه الحياة في العصور القديمة، أن نعتمد على شواهد حقيقية وليست على أمنيات أيديولوجية، وتفسيرات دينية، يكتشف بها إسرائيل فنكلشتاين موقع إسرائيل على الأرض قبل أن يرسمها على الخارطة.
والله من وراء القصد
زيدان كفافي
23/ 3/ 2023م