مقالاتمنشورات وإصدارات

وحدة الساحات بين الغرفة المشتركة وتجزئة المقاومة– قراءة نقدية (1)

بالرغم من انتهاء جولة المواجهة الثالثة بين حركة الجهاد الإسلامي وجيش الاحتلال، إلا أن حالة الجدل والصخب والإرباك والارتباك التي صاحبتها وتداعيات نتائجها سواء على الصعيد الإسرائيلي أو على الصعيد الفلسطيني الداخلي وما يسمى “فصائل المقاومة” تحديداً ما زالت قائمة وإن خفت وتيرتها. وبعد أن عدنا إلى نفس الصيغة المعتادة والمألوفة بعد كل جولة من جولات الحرب، وفي ظل أننا كفلسطينيين نترقب جولة أخرى معها أو مع غيرها من الفصائل فلا ضير أن نناقش بصراحة وجرأة مجريات ونتائج تلك الجولة ارتباطاً بالجهات الفاعلة والمؤثرة في أحداثها ومجرياتها، وما يرتبط بها من مصطلحات تشكل جوهر الاستراتيجية القتالية للفصائل في إدارة الحرب القائمة وما يتخللها من جولات تصعيد تكاد نتائجها ومجرياتها تكون متطابقة، ومن هذه المصطلحات “فصائل المقاومة، الغرفة المشتركة، وحدة الساحات”، ونجتهد في مقالتنا هذه لإضافة مصطلح جديد هو “تجزئة المقاومة” ارتباطاً بما حدث خلال الجولة الأخيرة وما قبلها.

يشير مصطلح “فصائل المقاومة” في مضمونه إلى رؤية مجموعة من الفصائل الفلسطينية ترى في المقاومة المسلحة حصراً في سياق المواجهة المستمرة مع الاحتلال الخيار الأمثل دون غيره من النماذج والخيارات المتعددة لمفهوم المقاومة في إطاره العام. ولم يعد خافياً أن هذا المصلح قد تم إنتاجه من قبل حركة حماس كغيره من المصطلحات واليافطات التي أنتجتها بغرض تمييز نفسها وتحقيق أهداف وغايات حزبية وسياسية، وفي مقدمتها خلق أجسام موازية تخضع لسطوتها ونفوذها لتكريس واقع جديد يخدم هدفها الرئيسي بمنافسة ومزاحمة منظمة التحرير الفلسطينية من جهة وسعيها لتقويض وإضعاف السلطة الوطنية من جهة أخرى، ولعل التدقيق في أسماء ومسميات بعض الفصائل التي صنعتها حماس وتُدرجها ضمن دائرة “فصائل المقاومة” والتي لا تمتلك من مقومات تؤهلها لتكون ضمن هذه الدائرة سوى الاسم فقط على شاكلة “حركة الأحرار وحركة المقاومة الشعبية وغيرهما من الفصائل الكرتونية”، يقودنا إلى النتيجة نفسها “تكبير الكوم”.

وقد سعت حماس وتحت يافطة “فصائل المقاومة” ومن خلال ماكينتها الإعلامية لاحتكار مفهوم المقاومة واعتبرت نفسها صاحبة الوصاية والحق الحصري في الولاية عليه، وذلك في مقابل ما تعتبره خيار التسوية والمفاوضات الذي تُدرجه حماس وتصنفه كخيار انهزامي تفريطي. إذن نحن أمام خيارين متضادين بين المقاومة والتفريط – وفق نهج حماس وسياساتها – وهو ما تسعى “حماس” لترسيخه في الوعي الجمعي الفلسطيني في إطار استراتيجيتها المشار إليها آنفاً، وفي سبيل ذلك تستخدم كافة العناوين والشعارات الوطنية كعباءة تتدثر بها وفي مقدمتها الدين والمقاومة.

المصطلح أو المُنتج الآخر هو الغرفة المشتركة، وتبلورت فكرتها بعد جولة الحرب في 2014، وتضم الأجنحة العسكرية للفصائل، وهي في مضمونها وأهدافها مرتبطة بمصطلح “فصائل المقاومة”، إذ تسعى حماس ومن خلال هذه الغرفة إلى فرض معادلتها في إدارة المواجهة العسكرية مع الاحتلال بما يخدم رؤيتها الحزبية والسياسية من خلال وضع أسس ومعايير تحكم وتضبط سلوك وأداء “فصائل المقاومة”، وتضمن في نفس الوقت عدم المساس بالتفاهمات التي عقدتها مع الاحتلال الإسرائيلي، والمرتبطة باستحقاقات منظومة حكم الأمر الواقع التي تدير بها حماس قطاع غزة. ومن البديهي أن تضم الغرفة المشتركة أجنحة عسكرية متفاوتة في قدراتها وإمكانياتها العسكرية ومواردها المالية، وبعضها يرتهن لحماس في تأمين تلك القدرات والموارد وبالتالي الالتزام بضوابطها ومعاييرها، وتأتي سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في المرتبة الثانية بعد كتائب القسام من حيث القدرات البشرية والعسكرية، واستقلالية إلى حد كبير بالموارد المالية واللوجستية، وما تحظى به من رعاية إيرانية خاصة، والأهم من ذلك كله ما تتبناه من فهم مختلف واستراتيجية مختلفة عن حماس في تبنيها وتطبيقها لمفهوم المقاومة، وهو ما قاد إلى إرباك حسابات حركة حماس وفرض عليها اتخاذ موقف المتفرج والشامت من جهة والوسيط الضاغط من جهة أخرى عندما شب الجهاد عن طوق الضوابط والمعايير التي وضعتها حماس للغرفة المشتركة.

أما مصطلح “وحدة الساحات” والذي ظهر خلال جولة الحرب في مايو 2021، حين جسد الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وحدة حقيقية في الميدان في التصدي ومواجهة سياسات الاحتلال التهويدية في القدس وحملات التطهير العرقي لسكانها، والتي لم تكن صنيعة أحد ولا ماركة مسجلة باسم هذه الفصيل أو ذاك، وإنما استجابة طبيعية وغريزية للفلسطيني الذي ينتفض بعنفوان عندما يتعلق الأمر بالقدس ومقدساتها، ويختلف شكل ومستوى هذه الاستجابة وفقاً للظروف والمعطيات التي تفرضها الوقائع والأحداث في تلك اللحظة. وقد عملت حركة الجهاد لتكريس هذا المصطلح كنهج واستراتيجية، حيث استخدمته لأول مرة عندما أطلقت على الجولة الثانية التي خاضتها منفردة في أغسطس 2022 اسم “وحدات الساحات”، كما خصصت مساحة كبيرة في إعلامها وتصريحات قيادييها لهذا المصطلح لتكريسه ضمن قاموس المصطلحات التي يتم تداولها ارتباطاً بمفهوم المقاومة.

وبالرغم من الاستخدام الخجول لهذا المصطلح من قبل حماس، إلا أنها وعبر بعض قيادييها وناطقيها ومحلليها تسعى لاستبداله بمفهوم “تكامل الساحات” والذي يمنحها هامشاً لإفراغ مفهوم “وحدة الساحات” من مضمونه وجوهره المتعلق بمسألة “التزامن”، بمعنى أن تشارك جميع الساحات “غزة، والضفة، والقدس، والـ48، والشتات” دون فصل بينها في أي جولة من جولات المواجهة، في حين يترك مفهوم “تكامل الساحات” الباب موارباً لاستثناءات لهذه الساحة أو تلك والمقصود هنا قطاع غزة أو بشكل أدق منظومة حكم حماس في القطاع، وهو ما حدث واقعاً في الجولة الأخيرة.

أما بالنسبة لمصطلح “تجزئة المقاومة”، فيمكن اشتقاقه من سياسة واستراتيجية الاحتلال الإسرائيلي في تفكيك وتفتيت كل مظاهر وصور وتجليات الوحدة الفلسطينية على جميع الصعد والمستويات ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وهو ما سنناقشه في الجزء الثاني من مقالتنا هذه، وكيف ولماذا نجح الاحتلال الإسرائيلي في “تجزئة المقاومة” والعوامل المساعدة والظروف التي قادته لفرض معادلته على “فصائل المقاومة” بقيادة حركة حماس.

الأستاذ أنور رجب

باحث في معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي

مقالات ذات صلة