منشورات وإصداراتمقالات

“هرمجدون” السيد بايدن النووي الموعود

التهديدات العلنية المتبادلة بين طرفي الصراع على الارض الاوكرانية والتلويح بإمكانية استخدام الاسلحة النووية سواء، التكتيكية منها أو ضربة عسكرية على محطة زابوروجيا النووية او الهجوم النووي الشامل والمتبادل، اصبحت متداولة على لسان قادة القوتين النوويتين موسكو وواشنطن.  في خطاب بثه التلفزيون الروسي اواخر شهر ايلول سبتمبر من العام الماضي، وجه بوتين تحذيراً شديداً لدول الغرب الجماعي قائلاً، “إذا تعرضت سلامة أراضي بلادنا للتهديد، فسنستخدم بلا شك كل الوسائل المتاحة لحماية روسيا وشعبنا – وهذا ليس خدعة”. متهماً الدول الغربية بالتحضير لابتزاز نووي ضد بلاده، يقول بوتين “في سياسته العدوانية المناهضة لروسيا، تجاوز الغرب كل الخطوط … وأولئك الذين يحاولون ابتزازنا بالأسلحة النووية يجب أن يعلموا أن ريشة الطقس يمكن أن تستدير وتشير نحوهم”.

ان تستمع لتصريحات قادة الكرملين عن جاهزيتهم لاستخدام الاسلحة النووية في حال تعرضت بلادهم لتهديد وجودي، هي مسألة يمكن تحليلها في سياق التذكير بقوة الردع النووية التي تمتلكها موسكو، وهو امر مستبعد عن اجندة الكرملين على الاقل ضمن مستويات وسياقات الحرب القائمة الان (على الرغم ان فرضية استخدامه ليست صفرية)، بالنظر الى انخفاض القدرة العسكرية لاوكرانيا على تشكيل تهديد وجودي حقيقي لموسكو، ولقناعة قادة الغرب الجماعي عدم الانخراط المباشر في قتال الجيش الروسي او تزويد اوكرانيا باسلحة ذات مدايات بعيدة تطال المدن الروسية، لان من شأن ذلك، ان يدفع الرئيس بوتين لاتخاذ القرار المحظور.

لكن عندما تعلم أن رئيساً أميركياً يتحدث في حملته الانتخابية بصراحة شديدة عن احتمال حدوث “هرمجدون” نووياً، هو أمر تقشعر له الأبدان ويستحق التوقف عنده. خلال حفل لجمع التبرعات للحزب الديمقراطي في نيويورك قال بايدن: “للمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية، لدينا تهديد مباشر باستخدام (سلاح) نووي إذا استمرت الأمور في الواقع على هذا المسار الذي تسير فيه”. مضيفاً “ان العالم وصل الى مرحلة خطيرة”، وفقاً لموقع الـــ CNN.

من المفارقات الخطيرة في تحليل هذا التصريح، أولاً. إقحام الاسلحة النووية سواء بالاستخدام او التلويح بالاستخدام لتوظيفها على اجندة الحملات الانتخابية للمرشحين الامريكيين، بهدف الحصول على مزيد من البطاقات الانتخابية. وهي سابقة خطيرة تهدد سكان الارض بالفناء بمن فيهم الناخب الامريكي نفسه. ثانياً. مبررات السيد بايدن بوقوع امريكا او حلفائها تحت المقصلة النووية الروسية نتيجة استمرار الوضع القائم على هذا المسار وفقاً لاقواله، يقوم على مبدأ تجاهل كامل لحقيقة ثابته مفادها ان هذا الوضع الخطير المتجه نحو حافة الهاوية تتحمله إدارته بشكل مباشر لعدة اسباب منها، حرص واشنطن الشديد على إستمرار تهديد الامن القومي الروسي منذ إنهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 وضم مزيداً من جمهوريات الاتحاد لحلف الــناتو NATO، مروراً بالعام 2014 حيث اسقاط النظام الاوكراني المنتخب وتنصيب قادة موالين للغرب عبر ما سمي بالثورات الملونة -على عكس مسارات نشر الديموقراطية والليبرالية التي تتفاخر بها واشنطن عبر العالم. وصولاً الى افشال اتفاقيات منسك1 ومنسك2 الموقعة بين روسيا واوكرانيا، والدفع بشدة نحو استمرار دول الناتو في تسليح وتدريب الجيش الاوكراني، وتغذية الحرب القائمة منذ أكثر من عام ونصف.

بعيداً عن مدى جدية الرئيس بايدن في تصريحاته – يمكن اعتبارها واحدة من هفواته المتكررة، الى جانب مستوى قدرته على تمرير قرار بهذا الحجم من الخطورة داخل الكونجرس المنقسم، إلا ان هذا التصريح يمكن قراءته في عدة سياقات. اولاً، رسالة عاجلة وخطيرة لبريد الكرملين مفادها، تذكير بوتين بقوة الردع النووي الامريكي، وبمدى جدية الادارة الديموقراطية في تفعيل المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو للدفاع عن حلفائها في حال تعرض أي بلد عضو في الحلف الى هجوم روسي. وهو ما سبق وان أكده مستشار الرئيس بايدن لشؤون الامن القومي جاك سوليفان في وقت سابق من هذا العام، “إنه إذا أطلقت روسيا “رصاصة واحدة” على أراضي بلد عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فسيتم تفعيل المادة الخامسة من معاهدة الحلف، و”سيجنّد الناتو كل قوته للرد على ذلك”. ثانياً، يأتي هذا الاعلان في إطار رسائل تطمينية لدول الحلف خاصة بولاندا، والتي طالبت واشنطن بنشر اسلحة نووية على اراضيها بعد قيام روسيا بنقل اسلحة نووية تكتيكية الى جارتها الشرقية بيلاروسيا، ونشر عناصر الفاغنر بالقرب من حدودها. مع استمرار حشو قاعدة كالينجراد الروسية العسكرية – بين بولاندا ولتوانيا، بالاسلحة النووية حتى الاسنان.

بالمقارنة مع ما تحدث به بوتين حول امكانية استخدام الاسلحة النووية لحماية الامن القومي الروسي و/أو أي تهديد وجودي لروسيا الاتحادية من قبل دول الغرب الجماعي التي تستثمر في حرب اوكرانيا لتنفيذ اجنداتها. ومع دخول صاروخ سارمات “الشيطان 2” النووي عابر القارات الى الخدمة الفعلية (يحتاج الى200 ثانية للوصول الى باريس)، بالتزامن مع تصريحات نائب رئيس مجلس الامن القومي الروسي ديمتري ميدفيدف بأن مسارات وقف الحرب في اوكرانيا تنحصر فقط في خيارين هما: اتفاقية سلام او استخدام الاسلحة النووية. بالمقابل، تصريحات الرئيس بايدن الاخيرة حول تزايد فرص الحرب النووية، بالاضافة الى تحذيرات مستشاره للامن القومي، فإن هذه المواقف والتصريحات تظهر بوضوح ان الدول العظمى لم تتعلم دروس التاريخ عن الاسباب الحقيقية لانطلاق الحرب العالمية الاولى والثانية، وكيفية تجنب اندلاع حرب عالمية ثالثة، ستكون أكثر فتكاً وتدميراً من سابقاتها.

ومع رفض دول الناتو تشجيع اوكرانيا على الانخراط في عملية تفاوضية رغم المبادرات والوساطات العالمية (التركية، المجموعة الافريقية والصينية) تفضي الى تقديم الحد الادنى للضمانات الامنية التي تطالب بها روسيا، وهي جعل اوكرانيا بلد بيضاء (حيادية)، واستمرار واشنطن في سياساتها الخارجية المعادية لموسكو وردة الفعل الروسية في اوكرانيا، فإن هذه العوامل مجتمعةً تدفع نحو انفجار حرب عالمية غير مبررة قد يضطر فيها احد الطرفان وبالتالي الطرف الاخر، الى استخدام سلاح تدميري شامل نحو هرمجدون نووي يبشر به سيد البيت الابيض.

د.عوض سليمية

الدكتور عوض سليمية، باحث في العلاقات الدولية ، ومدير وحدة الابحاث والدراسات الدولية، ومستشاراً أكاديميأ لمدير معهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي

مقالات ذات صلة