اغتيال هنية في طهران.. هل يقود إلى حرب إقليمية؟
بغض النظر عن حالة الجدل الدائرة حول الطريقة والأسلوب والأدوات التي تم من خلالها تنفيذ عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، وأحد أعمدة ما يسمى بمحور المقاومة، فالحقيقة الثابتة التي لا جدال فيها، أنه غادر عالمنا تاركاً خلفه إرثاً كبيراً من المواقف والسياسات والأحداث التي ساهم بصناعتها وكان جزءا منها، والتي شكلت مرحلة ومحطة ستظل حاضرة عنوة في تاريخ الشعب الفلسطيني، بحكم ما كان لها من ارتدادات على القضية الفلسطينية وتفاعلاتها محلياً واقليميا ودوليا، والتي ستبقى حالة الجدل والخلاف والتباين بشأن تأثيراتها ونتائجها قائمة إلى أجل غير مسمى، لا سيما وأن الشاهد الحي على تلك المرحلة وهو “الانقلاب” وما تسبب به من انقسام ضرب في الصميم كل عناصر ومقومات القوة المفترض توافرها من أجل استكمال مشروع التحرير والدولة، ما زال قائماً على أرض الواقع وما زالت تفاعلاته تفرض نفسها بقوة مسببة المزيد من المآسي والكوارث والمعاناة للشعب الفلسطيني.
من أهم الدلالات التي يمكن استنتاجها من وقائع ومجريات عملية اغتيال هنية، وما ترافق معها من هجمات وعمليات نوعية أخرى استهدفت “محور المقاومة” مثل الهجوم على ميناء الحديدة في اليمن، واغتيال الرجل الأول في منظومة حزب الله العسكرية فؤاد شكر، وقبلها اغتيال محمد الضيف ورافع سلامة، تشير إلى أن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة بكل ما فيها من جنون، لا يضيرها أن تتوسع رقعة الحرب في المنطقة هذا إن لم تكن تسعى إليها، واضعة نصب عينيها أن تتدحرج الأوضاع لتفرض تورط الولايات المتحدة الأميركية وتدخلها الاجباري لحماية وإنقاذ إسرائيل.
ومن زاوية أخرى تسعى الحكومة الإسرائيلية لاستعادة هيبة الدولة وقوة ردعها التي تآكلت بعد هجوم السابع من أكتوبر، وبعد ما أصبحت مستباحة أمام هجمات أذرع إيران في المنطقة، وهي بذلك تسعى لكسر محور المقاومة وتقويض مفهوم وحدة الساحات وتفكيكه، وهو ما بدا واضحاً في عملية اغتيال هنية في عقر دار رأس المحور وفي أكثر فضاءاته صلابة وقوة (الحرس الثوري).
أما الثانية فهي ضعف وهشاشة الدولة الايرانية ومنظومتها الامنية بكل مكوناتها وتفرعاتها، خاصة وأن هذه العملية جاءت في ظروف استثنائية تشهد حرباً تمثل فيها حركة حماس رأس الحربة من بين أذرع “محور المقاومة” الأخرى، ورئيس مكتبها السياسي اسماعيل هنية مدرج ضمن الاولويات على قوائم التصفية الاسرائيلية، ومن المفترض أن تكون الاجراءات الأمنية في ذروتها بفعل الحدث الرئيسي وهو مراسم تنصيب الرئيس الايراني الجديد، ومشاركة وفود من أذرع “محور المقاومة” للاحتفاء به ومبايعته، والتي تم تأمينها في مجمع شديد الحراسة تابع للحرس الثوري ومحاط بأنظمة رادار ودفاع جوي وإجراءات أمنية مشددة، حتى أن المبنى الذي تم فيه اغتيال هنية لا يبعد عن منزل الرئيس الإيراني بزشكيان سوى 150 متراً.
ما يعزز من هذه الفرضية “هشاشة الدولة” هو وجود سوابق عديدة لعمليات نوعية قامت بها اسرائيل داخل ايران ومنها على سبيل المثال لا الحصر، عملية اغتيال العالم النووي الأكبر فخري زادة، وسرقة جزء من أرشيف البرنامج النووي ونقله لإسرائيل، وعشرات عمليات التفجير والتفخيخ لأهداف نوعية في الداخل الايراني، ناهيك عن اكتشاف العديد من الخلايا والشخصيات التي ثبت تجسسها لصالح الموساد أو لأجهزة مخابرات أميركية وغربية، بالإشارة هنا إلى تصريحات للرئيس السابق احمدي نجاد حول مسؤول ملف مكافحة التجسس في المخابرات الايرانية والذي ثبت أنه يعمل لصالح الموساد الاسرائيلي، حتى إن وزير الاستخبارات الإيراني وقبل أيام قليلة من اغتيال هنية أعلن أن إيران فككت ودمرت شبكة من عناصر الموساد الذين كانوا يقومون بعمليات اغتيال وتخريب للمنشآت الايرانية. وبالمقابل لم نسمع عن عملية واحدة نفذتها ايران داخل العمق الاسرائيلي أو عملية اغتيال لشخصية عسكرية أو أمنية اسرائيلية، أو حتى عملية أمنية نوعية في إطار صراع العقول. بيت القصيد هنا هو كيف يمكن الركون أو الثقة بأن الدولة التي لا تستطيع حماية نفسها من استباحة العدو لها كيف لها أن تهزمه؟ وكيف لها أن تدعي قدرتها على قيادة مشروع تحرير فلسطين؟
أمام هذه التطورات والتصعيد الحاصل بين اسرائيل و”محور المقاومة”، هل نحن أمام رد إيراني يقود إلى توسيع رقعة الحرب لتتحول إلى حرب اقليمية؟ من الواضح أن ايران ستكون مجبرة ومكرهة ولا خيار أمامها إلا أن ترد على هذا الإذلال الذي تعرضت له، وهذه الاستباحة التي مست هيبتها ومكانتها وسمعتها بوصفها رأس “محور المقاومة”، وبوصفها قوة إقليمية وفاعلاً دولياً من المفترض أنه يحسب لها ألف حساب. ولكن كيف سيكون مستوى وطبيعة الرد الإيراني؟
بغض النظر إن كان الرد مشتركاً بين إيران وأذرعها، أو إن كان بشكل منفرد لكل واحدة من هذه الأذرع، إلا أنه من المتوقع أن يكون الرد محسوباً بحيث يلحق أذي يمكن احتماله من قبل اسرائيل ولا يقود إلى تصاعد المواجهة لتصل حد الحرب الشاملة، إذ لا مصلحة لإيران في الوصول إلى هذا الحد، وهذا ما يمكن قراءته من خلال متابعة السلوك الإيراني منذ بداية الحرب، ومن خلال قراءة إستراتيجية ايران في إدارة صراعها مع اسرائيل القائمة على تجنب الحرب المباشرة والشاملة واتباع استراتيجية الاستنزاف طويلة الأمد لإسرائيل بالاعتماد على أذرعها المنتشرة في المنطقة، والتي تعتمد بالأساس على إحاطة اسرائيل بجماعات معادية من كافة الجهات، وربما هذا ما يفسر المحاولات الايرانية المستمرة لزعزعة استقرار الأردن وإضعافه، وكذلك محاولاتها لنشر الفوضى في الضفة الغربية وإضعاف السلطة الوطنية، وهو ما من شأنه احكام إيران الطوق حول اسرائيل في حال نجحت بذلك، بالإضافة إلى أن ايران تدرك أن الحرب الشاملة ستقود إلى خسارتها لكل ما أسسته وشيدته طوال العقود الماضية وتكبدت فيه عناء الحصار والعقوبات وضعف اقتصادها وتصدع جبهتها الداخلية، والأهم خسارة برنامجها النووي الذي يعتبر بمثابة المدماك الاخير لتحول ايران من قوة اقليمية إلى قوة دولية فاعلة ومؤثرة، مع الاخذ بعين الإعتبار أن استعداء اسرائيل من قبل ايران يمثل ركنا أساسيا من استراتيجيتها لاحتواء المنطقة وفرض هيمنتها على مقدراتها، والمقصود هنا أن هذا الاستعداء له بعد وظيفي ليس إلا، وربما هذا ما يفسر التقاطع في كثير من المحطات بين السياسة الايرانية والاسرائيلية تجاه المنطقة، بل والتعاون في بعض الأحيان (الحرب الايرانية العراقية).
على الصعيد الدولي هناك محاولات وجهود حثيثة وخاصة من القوى الكبرى والدول الفاعلة والمؤثرة في الإقليم أيضاً، وعلى رأسها الولايات المتحدة لمنع توسع رقعة الحرب، والإبقاء على قواعد الاشتباك السائدة على مدار الشهور الماضية كما هي، وهذا يأتي في ظل ضغوط تمارسها الولايات المتحدة تحديداً للوصول إلى وقف إطلاق النار وانهاء الحرب، والتي لم تخف امتعاضها من التصعيد الاسرائيلي الاخير، خاصة وأنها باتت على ابواب المرحلة الساخنة من الانتخابات المزمع اجراؤها في بداية نوفمبر القادم. إذا نحن أمام منعطف بالغ الخطورة في سياق المواجهة الدائرة والهجمات والردود المتبادلة، ولكن الظروف والمعطيات للأطراف جميعاً وللقوى والدول الفاعلة والمؤثرة لا توحي بوجود قرار للوصول إلى حرب شاملة، بل العكس من ذلك تماماً، فمهما بلغت وتيرة ودرجة التصعيد فلا مناص من احتواء الموقف حتى لو حدثت أمور خارجة عن السيطرة أو أخطاء أو حسابات وتقديرات في غير محلها.
نقلأ عن جريدة الحياة الجديدة: المصدر اضغط هنا